إثيوبيا.. قصة تحول اقتصادي تاريخي تقوده الإرادة والإصلاحات الجريئة - ENA عربي
إثيوبيا.. قصة تحول اقتصادي تاريخي تقوده الإرادة والإصلاحات الجريئة

تشهد إثيوبيا تحولًا اقتصاديًا تاريخيًا، تشكله خيارات سياسية جريئة، واستثمارات استراتيجية، والتزام راسخ بالنمو المستدام والشامل. منذ إطلاق "برنامج الإصلاح الاقتصادي المحلي" في 2019، حددت الحكومة مسارًا جديدًا يهدف إلى تحقيق الاستقرار الاقتصادي، وخفض التضخم، وإطلاق إمكانات التنمية طويلة الأجل
لسنوات، عانت إثيوبيا من ارتفاع التضخم، ونقص مزمن في العملات الأجنبية، وتصاعد الديون العامة. وإدراكًا للحاجة الملحة للتغيير، انطلقت الحكومة في واحدة من أكثر أجندات الإصلاح الاقتصادي طموحًا في أفريقيا. تشمل ركائز هذا التحول إصلاح السياسة النقدية، وتحرير نظام الصرف الأجنبي، وفرض الانضباط المالي، وإعادة هيكلة الديون الخارجية، وتعزيز الأسواق المالية
في تحول تاريخي عام 2024، حررت إثيوبيا نظام الصرف الأجنبي لأول مرة منذ خمسة عقود، حيث استبدلت نظام سعر الصرف الثابت بنظام يعتمد على السوق، وأنهت تمويل البنك المركزي المباشر لعجز الحكومة. في الوقت نفسه، تبنت "البنك الوطني الإثيوبي" سياسة نقدية قائمة على أسعار الفائدة، وأطلق عمليات السوق المفتوحة، وعدّل قانون البنك المركزي ليجعل استقرار الأسعار هدفًا رئيسيًا
في اجتماعات الربيع لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي 2025، أكد محافظ البنك الوطني الإثيوبي "مامو ميهريتو" أن هذه الإصلاحات تهدف إلى "تصحيح التشوهات الهيكلية، وخفض التضخم، ومعالجة اختناقات العملة الأجنبية، ودعم النمو المرتفع والمستدام". وبدأت النتائج المبكرة تظهر بالفعل: انخفض التضخم من 30% إلى 13%، وارتفعت احتياطيات العملات الأجنبية ثلاثة أضعاف. ومن المتوقع أن ينخفض التضخم إلى حوالي 10% بحلول العام المالي 2025/2026.
لدعم زخم الإصلاح، حصلت إثيوبيا على تمويل بقيمة 3.4 مليار دولار من صندوق النقد الدولي في يوليو 2024، مما فتح فرصًا لإعادة هيكلة الديون، وأظهر ثقة عالمية قوية في مسار إثيوبيا الاقتصادي. وأصبحت إثيوبيا تُنظر إليها كوجهة استثمارية مستقرة وموثوقة.
ومن المعالم الرئيسية الأخرى إطلاق أول سوق للأوراق المالية في إثيوبيا، "بورصة إثيوبيا للأوراق المالية" (ESX)، في يناير 2025، إلى جانب منح تراخيص لبنوك استثمارية خاصة مثل "CBE Capital" و"Wegagen Capital"، مما وضع أساسًا لتطوير القطاع المالي وأسواق رأس المال.
إلى جانب الإصلاح الاقتصادي، تشهد إثيوبيا حملة استثمارية عامة ضخمة، حيث يتم تخصيص ما يقرب من 10% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا للبنية التحتية. ومن أبرز المشاريع "سد النهضة الإثيوبي الكبير" (GERD)، الذي يجعل إثيوبيا مصدرًا للطاقة النظيفة في المنطقة، وسكة حديد أديس أبابا-جيبوتي الكهربائية التي قلصت وقت الشحن من 3 أيام إلى 10 ساعات، فضلًا عن توسيع شبكة طرق بطول 145 ألف كيلومتر لتعزيز الخدمات اللوجستية.
في صميم التحول الهيكلي لإثيوبيا، تقف ثورة في الإنتاجية الزراعية، خاصة في القمح. فبعد أن كانت مستوردة للقمح، أصبحت إثيوبيا أكبر منتج للقمح في أفريقيا، بحصاد قياسي بلغ 23 مليون طن في 2023/2024. ومكنت الابتكارات مثل الزراعة المتجمعة والري والميكنة والبذور المقاومة للمناخ من تحقيق الاكتفاء الذاتي وبدء التصدير.
وحظي هذا النجاح بتقدير عالمي في يناير 2024، عندما منح المدير العام لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) "كو دونغيو" رئيس الوزراء "آبي أحمد" وسام "أغريكولا"، أعلى وسام في المنظمة، تقديرًا لبرنامج "قمح من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي" ومبادرة "الإرث الأخضر" لإعادة التشجير التي تربط بين الأمن الغذائي والاستدامة البيئية.
لكن رحلة الإصلاح لم تخل من التحديات، حيث رافقت الفترة الانتقالية ارتفاعًا في الأسعار. وردًا على ذلك، أطلقت الحكومة خطة حماية اجتماعية تشمل إعانات مستهدفة للوقود والغذاء، وبرامج توظيف في البنية التحتية والزراعة لضمان مشاركة الجميع في مكاسب الإصلاح.
تستثمر إثيوبيا أيضًا في التصنيع، حيث توفر المناطق الصناعية الحديثة مثل "حديقة هواسا الصناعية" عشرات الآلاف من الوظائف في النسيج والجلود وتصنيع المنتجات الزراعية، مما يفيد النساء والشباب بشكل خاص.
مع نمو متوقع للناتج المحلي الإجمالي بنسبة 8.4% في 2024/2025، تخرج إثيوبيا من الأزمات الاقتصادية بقوة متجددة. وقد أشادت مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والفاو والاتحاد الأوروبي ببرنامج الإصلاح لكونه محليًا وقائمًا على البيانات.
وأثنى صندوق النقد الدولي بشكل خاص على الإصلاحات الاقتصادية في إثيوبيا، معتبرًا تحرير سوق الصرف الأجنبي واعتماد السياسة النقدية القائمة على أسعار الفائدة خطوات حيوية لتحقيق الاستقرار وجذب الاستثمار. كما أشاد الصندوق بالتقدم في استعادة الاستقرار الاقتصادي وكبح التضخم وتعزيز الانضباط المالي.
وقد عززت إثيوبيا مكانتها كأكبر اقتصاد في شرق أفريقيا وثالث أكبر اقتصاد في أفريقيا جنوب الصحراء.
برنامج الإصلاح الاقتصادي الإثيوبي ليس مجرد حل تقني، بل هو رؤية وطنية للنهضة، قائمة على الاعتماد على الذات والسيادة الاقتصادية والازدهار الشامل. بالإرادة السياسية المستمرة، والدعم العالمي المتزايد، وصمود الشعب، تُرسي إثيوبيا نفسها كقوة اقتصادية صاعدة في القارة الأفريقية، تتحول فيها التحديات إلى فرص دائمة، وتُخطّط طريقًا جريئًا محليًا نحو مستقبل أكثر إشراقًا.